الاثنين، 15 أكتوبر 2012

وجوب النصيحة في بلاد التوحيد


           



بسم الله الرحمن الرحيم
                            
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فكثيرا ما يفزع بعض الكتاب في بعض الصحف حينما يتكلم أحد طلبة العلم عن مسألة من المسائل المحرمة وأثرها على المجتمع و مضرة ذلك ويجعلون فعل طالب العلم هذا من المنكرات الكبيرة التي يجب عليه التوبة منها بحجة انه يوجه نصيحة للحكام  وهذا الفعل منه لايجوز بزعمهم  والعجيب انه لا يعلم  لكثير من هؤلاء الكتاب كثير طلب علم ولا معرفة  في أمور الدين والدنيا وان كان بعضهم  قد وضع  نفسه في مقام المفتين وكبار العلماء وأرعد وزمجر  بدون علم ولاكتاب منير ولا أعلم –بعلمي القاصر- لبعض هؤلاء الكتاب من منهج واضح ولا دليل مستبين بل ولا أعلم من أي مشرب يشربون في رأيهم الذي يذكروه , وذلك أن ما يفعله طلبة العلم من نصح وتوجيه وإنكار يتوافق مع جميع الشرائع والمعتقدات والنظريات  القديمة والحديثة بما في ذلك توافقه مع الدليل الصحيح الصريح من الكتاب والسنة كما سنرى بعد قليل

كما انه يتوافق مع النظريات الحديثة في حقوق الإنسان والمجتمع المدني حيث أن هذا يعتبر ممارسة طبيعية لحق إنسان في التعبير عن رأيه في أي أمر يتعلق به أو بمجتمعه , كما أنه يتوافق مع المبادئ القيادية التي ينتهجها الحكام المسلمين  في سياستهم وقيادتهم لأبناء شعبهم لأنهم أول المعنيين بهذا حيث إنهم كثيرا ما يرد عنهم قولهم لأبناء شعبهم في كل مناسبة نحن منكم وأنتم منا ونحن ننتظر النصح منكم تحقيقاً لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعملاً بحديث (الدين النصيحة.....)

فما بال هؤلاء يثيروا مثل هذه الزوبعات في كل حين ألمصلحة دينية أم لمصلحة دنيوية أم لتّشفي من طلبة العلم الشرعي أم لأمر ما قد نعلم عنه يوما ما  أن هؤلاء المتطفلين على العلم الشرعي  قد هرفوا بما لم يعرفوا فجاءوا بالعجائب  لان بعضهم يغيضه جهله ومعرفة غيره , فيبدأ يكتب عن كثير من المسائل التي يتكلم عنها الفقهاء في هذا العصر الذي ضعف فيه الوازع الديني لإنكار المنكرات ظاهرها وباطنها كما زاد فيه الخوف من غير الله حتى أصبح موازياً إن لم يكن أعظم من الخوف من الله. ودخل الشيطان في القلوب فأصبح تخويفه لأوليائه أكبر من الخوف من الله , لذلك بدأ يظهر جلياً كيف أن قراءتنا لبعض مواضيع التوحيد كان خاطئاً وغير موصل لما أريد منه فقدم التوكل والرجاء والخوف والاستغاثة للمخلوق ونسي الخالق , وأوجد من فعل ذلك عشرات المخارج من وخز الضمير وتأنيب الذات فأصبح فيه المسلمون من أهون الشعوب على الناس ومع احتفاظي لكل من  يخالفني بقدره  وبحقه  الذي يستحقه وقدره الذي يتبوؤه ومنزلته التي يعتليها إلا أنني أحببت أن أشارك في هذه المناقشات العلمية غير متحامل على أحد ولا متحيز لكاتب دون غيره إلا إنني أعد نفسي بالالتزام بقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). ويقول: سيد المرسلين وإمام المتقين والمبعوث رحمة للعالمين عليه أفضل الصلاة والسلام (بعثت على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)

إن هذه الآية والحديث مع غيرهما من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة توجب على المسلمين الرجوع إلى حكم الله عز وجل وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ولو خالف ذلك أهواء العامة والخاصة من حكام ورعية .فالمرد لله أولا وأخيراً, وله الأمر من قبل ومن بعد ، 
والله سبحانه وتعالى قد قضى في أكثر من آية في كتاب الله عز وجل بوجوب النصيحة و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعل هذا الوجوب عاماً غير مخصص بحال دون حال, ولا لناس دون غيرهم. ومعنى هذا أن هذه الآيات بينت هذا الوجوب بوجه عام ولم تقل فيه :إن النصيحة  واجبة لعموم الناس كما أنه يجب إنكار المنكر عليهم  بالوسائل الثلاث المبينة في الحديث الصحيح أما غيرهم فإنه لا يجوز  نصحه والإنكار عليه.

بل جاءت القاعدة الشرعية بخلاف ذلك مطلقاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم :
(الدين النصيحة) قلنا لمن يا رسول الله. قال:(لله ولكتابة ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)
وجه الدلالة:- ان قد ورد النص على النصيحة لله ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم  وأن هذا من دين الله الذي شرعه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.والله عز وجل عبد الامة له وحده لم يتعبد الله امة محمد برأي عالم أو فقيه أو قاض أو حاكم , ثم ألا يفطن من حرم مناصحة حاكم المسلمين أن الله عز وجل عاتب نبيه في قرآن يتلى إلى يوم القيامة وأنكر عليه حينما قال:(عبس وتولى) وهذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم قدراً وأعلى شأناً من جميع الناس أم أنه يريد أن يقول أن بيان فعل هذه الأمور ومناصحة الحكام قد تنقص قدر الحاكم عند الرعية فيقال له: إن هذا الكلام غير صحيح لأن الله عز وجل قد ذكر عن نبيه أمراً كان صلوات الله عليه وسلامه قد أسره في نفسه فقال:(وتخفى في نفسك ما الله مبديه) ولم يكن ذلك تنقيصاً لقدر رسول الله عند أصحابه بل زاد قدره عند العامة والخاصة لأنه لم يخف مثل هذه الآية عن الأمة مع ما قد يظن البعض فيها مما قد يخجل الإنسان العادي فضلاً عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. 
ومما ينبغي التنبيه  له من قبل هؤلاء الكتاب أن هناك أدلة كثيرة تدل دلالة صريحة على وجوب مناصحة الحكام  وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لا يسع المجال لذكرها جميعا وهي موجودة في مضانها من كتب التفسير والحديث والفقه وغيرها وسأقتصر هنا على أهمها: 

الدليل الاول:
قال الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ).
وجه الدلالة من هذه الآية :-
وجوب المناصحة لجميع هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً ولم تفرق هذه الآية بين الأمر والنهي العلني والسري ولأن الأصل هو العلنية لا السرية وحيث لم يرد نص شرعي معتبر في تحول هذا الأصل. والحرص على فعل هذه الشعيرة جعل هذه الأمة خير الأمم وهذه الشعيرة لا يمكن أن تأتي ثمارها الحقيقية إلا بإعلانها واشتهارها مثلها مثل بقية شعائر المسلمين .

الدليل الثاني :
قول الله تعالى:(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ).
وجه الدلالة من الآية :-
في هذه الآية أمر مطلق بالدعوة إلى الخير وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا الأمر المطلق يفيد الوجوب وهو عام في كل أمر ونهي لم يقيد ذلك الوجوب بالسرية ولا بالعلنية,ومن قيد هذا الإطلاق فعليه الدليل.
وحيث إن الأصل في هذه هو العلنية وهو ما يتوافق مع بقية النصوص الشرعية في القرآن والسنة, بل هو منهج الأنبياء عليهم السلام مع مخالفيهم من عهد نوح عليه السلام إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يدعون مخالفيهم ويأمرون قومهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر جهاراً , ثم يعلنون لهم ويسرون ويتحينون ما يفيدهم ويثمر معهم ولذلك نجد خير مثال لذلك ما ورد في سورة نوح حيث بدأ بالجهر والعلن قبل الأسرار قال الله تعالى:(ثم إني دعوتهم جهاراً *ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً) سورة نوح (8-9) والنصوص المبينة لدعوة الأنبياء عليهم السلام في القرآن قد أوضحت وجوب العلنية في ذلك, بل إنه حينما كانت الدعوة سرية لم تبلغ ما بلغته الدعوة العلنية .

الدليل الثالث :
ما جاء في الحديث((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته وهذه المسئولية سوف تكون من قبل الله تعالى يوم القيامة ومن قبل الأمة في هذه الحياة الدنيا. وهذا تأصيل لمبدأ شرعي سامي جاء به الإسلام قبل هذه القوانين المحدثة بأربعة عشر قرناً وهو مبدأ. سلطة الأمة على الحاكم ووجوب محاسبتها له. وهو ما أكده القرآن وأكد عليه في قول الله تعالى عن نفسه(لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) فالذي لا يسأل عما يفعل في الدنيا والآخرة هو الله عز وجل أما من سواه فإنهم مسئولون عن أفعالهم وتصرفاتهم في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة ومنهم الحكام. وهذا هو الذي يتمشى مع المبدأ الشرعي الصحيح وهو أن العصمة للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن ربه تعالى وما سواه مهما بلغت مراتبهم الدنيوية فليس لهم عصمة, ويجب أن يحاسبوا على أعمالهم وتجاوزاتهم .فإذا كانوا مسئولين في هذه الحياة ومحاسبين على تجاوزاتهم فانه تجب مناصحتهم عند حصول الأخطاء منهم حتى تكون الحجة فد قامت لهم وعليهم في الدنيا والآخرة. 

الدليل الرابع:
قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم معترضاً عليه في قسمته :(يا محمد اعدل فإنك لم تعدل , وإن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك من يعدل إن لم أعدل) فأراد الصحابة ضربه فقال صلى الله عليه وسلم:(معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي).
وجه الدلالة :-
أن هذا الرجل تكلم أمام النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه وأغلظ له القول فيما يعتقد هو أنه نصيحة, فما نهره النبي صلى الله عليه وسلم ولا عاقبة ولاحا كمه, ولم يقل له انه لايصح منك هذا الفعل جهرا, وإنما كان ينبغي عليك أن تعلم أن النصيحة لا تكون إلا سراً, كما أن الصحابة لم ينكروا عليه ذلك ولكنهم جزعوا من قلة أدبه مع النبي صلى الله عليه وسلم. ولو كانت نصيحة الأمام لا تجوز إلا سراً كما يقول البعض لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.لأن عدم إنكاره عليه مع وجوبه يعتبر تأخير للبيان عن وقت الحاجة , وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

الدليل الخامس:
كان النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس مع أصحابه فقال له رجل يهودي يا بني عبد المطلب إنكم قوم مطل أي لا تؤدون الحقوق. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد استلف منه مالاً. فأراد عمر رضي الله عنه أن يضرب اليهودي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إنا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمره بحسن الطلب وتأمرني بحسن الأداء) .
وجه الدلالة:-
أن هذا اليهودي ناصح الأمام في وقته وهو النبي صلى الله عليه وسلم بان يقضي دينه الذي له عليه وكان هذا الفعل من هذا اليهودي بمحضر من الصحابة رضوان الله عليهم ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بل وافقه على ما فعله ونهي أن يتعرض له. بل وعاتب عمر بن الخطاب حينما أراد ضربه وقال له إن الواجب عليك أن تأمره بحسن الطلب وتأمرني بحسن الأداء وهذا دليل ثاني على أن مطالبة الإنسان بحقه والنصح والأمر بالمعروف يجوز في العلن. بل هو واجب فيه. لقوله صلى الله عليه وسلم (وتأمرني بحسن الأداء). وهو يدل على وجوب أمر الحكام ونصحهم في العلن وليس في السر.
فهذا دليل دل على النصيحة العلنية من وجهين:-
 1- من جهة عدم الإنكار على اليهودي نصحه ومطالبته النبي صلى الله عليه وسلم . ولو كان هذا محرماً أو منهياً عنه لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وقته لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عمر عدم نصحه للنبي صلى الله عليه وسلم وعدم أمره له بحسن الأداء مع أنه كان في مجموعة من أصحابه مما يدل على أن نصيحة الحاكم في العلن أمراً واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عمر حينما لم يقم بذلك.

الدليل السادس:
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه في صلح الحديبية فقال له:(علام نعطى الدنية في ديننا).
وجه الدلالة:-

أن فعل عمر بن الخطاب كان نصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو أمام أصحابه ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه فعله ذلك مما يدل على مشروعية الإنكار على الحاكم والنصح له ولو كان علناً.

الدليل السابع:
إن المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين يعترضون على سياساتهم وينتقدون ممارساتهم ولم ينكر أحد على هؤلاء المعترضين ولا على هؤلاء الناصحين والمنتقدين لممارسة الخلفاء الراشدين مما يدل على مشروعية ذلك وأن من قال بخلاف ذلك فقد اتبع هواة وابتعد عن الدليل الشرعي. ولو كان انتقاد الخلفاء والحكام علناً منكراً كما يزعم البعض لأنكر ذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على من فعله.
وجه الدلالة :-
وجه الدلالة من هذا الدليل واضح وصريح بجواز الإنكار على الخلفاء و الحكام والسلاطين سرا وجهراً وجواز مناصحتهم كذلك وهذا ما حصل في عهد الخلفاء الراشدين وهم خير القرون بل وأفضل البشر بعد الأنبياء, ولم يكن أحد ينكر على أحد في ذلك وما قال أحد منهم- سواء كان من المنكر عليهم أو كان من الموجودين في ذلك الوقت مع المنكر عليهم أو المناصحين - بعدم جواز المناصحة العلنية.

الدليل الثامن:
قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في خطبة البيعة وبعد أن أصبح خليفة حيث قال: إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني .
وجه الدلالة:-
أن في هذه العبارة تأكيد من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مبدأ حق الأمة في نقد سياسة الإمام وتقويمه ونصحه علناً وسراً.

الدليل التاسع:
اعتراض عمر بن الخطاب وبعض الصحابة على أبي بكر رضي الله عنهم عندما أراد قتال أهل الردة. ومازال أبو بكر رضي الله عنه يجادلهم حتى أقنعهم برأيه  
وجه الدلالة:-
أن اعتراض كثير من الصحابة على رأي أبو بكر وإعلانهم لهذا الاعتراض والمجاهرة به يعتبر تقويم له و مناصحته علانية ولم ينكر أبو بكر عليهم فعلهم ذلك ولو كان منكراً كما ذكر بعض المنتسبين لأهل العلم لأنكر عليهم.

الدليل العاشر:
دخل رجل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأغلظ الرجل القول لأبي بكر فقال أبو برزة الإسلامي: ألا أضرب عنقه يا خليفة رسول الله؟ فغضب أبو بكر أشد الغضب من هذه الكلمة التي قالها أبو برزة وقال: لا والله ما كانت لأحد بعد رسول الله .
وجه الدلالة:-
أن هذا الرجل لم يكتف بالإنكار على خليفة رسول الله أبي بكر أو مناصحته فقط بل قد أغلظ القول له وعنده غيره , ومنهم أبو برزة الاسلامي ومع ذلك لم ينكر عليه أبو بكر إنكاره ولا إغلاظ القول في الإنكار , بل أنكر على أبي برزة وغضب من قوله ما لم يغضب من فعل الرجل ولو كان إنكاره علانية منكراً أو محرماً لبين له أبو بكر رضي الله عنه ذلك.

الدليل الحادي عشر:
أن بلال الحبشي رضي الله عنه كان مع جماعة من الصحابة الذين اعترضوا على سياسة عمر بن الخطاب في شان الأرض المغنومة وطالبوه بتقسيمها على الفاتحين، ورأى عمر رضي الله عنه وقفها على جميع المسلمين، وما زالوا يجادلونه حتى دعا الله عليهم وكان يقول: اللهم اكفني بلالاً.
وجه الدلالة:-
أن بلال رضي الله عنه اعترض مع مجموعة من الصحابة على سياسة عمر في الأرض المغنومة علانية ولم ينكر عليه سراً. ولو كان الإنكار على الإمام علانية محرماً إلا بإذنه لأنكر ذلك عمر بن الخطاب عليهم, بل لو كان محرماً لم يجرأ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على فعل هذا المنكر لأنهم أبعد الناس عن مقارفة المنكرات والمحرمات كما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين في ذلك الوقت رضي الله عنه لم يجد وسيلة لمجابهة معارضيه في هذه القضية إلا محاورتهم ثم الدعاء عليهم. ولم يأمر بمحاكمتهم أو قذف التهم عليهم أو إيداعهم في السجن أو نحو ذلك مما كان يمكن أن يفعله لو كان ما فعلوه منكراً أو ذنباً يستحقون عليه العقاب , خاصة مع ما يعرف من أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أنه لا يخشى في الله لومة لائم .

الدليل الثاني عشر:
ما جاء في الحديث الصحيح:- (وألا ننازع الأمر أهله وفيه على أن نقول [نقوم]بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم).
وجه الدلالة:-
أنه يجب طاعة الحاكم والالتزام بأمره ونهيه وعدم جواز منازعته أو الخروج عليه بالسلاح ولا غيره مادام قائماً بواجبه الذي كلفه الله به , ولم يظهر منه كفر بواح, كما أنه يجب على المسلمين إبداء أرائهم والتعبير عن معتقداتهم والإنكار على سلاطينهم دون أن يخافوا في الله لومة لائم وهذا دليل صريح جمع بين تحريم الخروج على الحكام ووجوب نصحهم والإنكار عليهم وعدم ترك ذلك خوفاً منهم وفي هذا دليل قطعي على أنه لا يوجد تلازم بين نصيحة الحكام والإنكار عليهم وبين الخروج عليه ,بل إن نصحهم وسيلة مشروعة لتثبيت حكمهم وتمسك الشعب بهم , و تجعله حكماً شرعياً خالياً من المنكرات التي تتسبب في عزلهم ولذلك فإنه يحرم على السُلْطات مصادرة حق الشعوب في التعبير عن الرأي .

الدليل الثالث عشر:
أن الصحابي الجليل عبادة بن الصامت كان في الشام ينكر على معاوية بن أبي سفيان أشياء علنية ويحتج بحديث البيعة السابق فكتب معاوية إلى عثمان: أن عبادة بن الصامت قد أفسد علي الشام و أهله. فلما جاء عبادة إلى عثمان رضي الله عنهما قال له سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(إنه سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون, فلا طاعة لمن عصى الله تبارك وتعالى فلا تعتلوا بربكم).
وجه الدلالة:-
أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنكر على معاوية بالشام أشياء علانية وهو لم يأذن له بذلك, بل لقد ضاق به ذرعاً حتى شكاه إلى عثمان. ولو كان الإنكار على السلاطين والأمراء علانية منكر لبينه معاوية رضي الله عنه أو عثمان لعبادة بن الصامت ,كما أنه لو علم عبادة بن الصامت أنه منكراً لم يفعله أصلاً.

الدليل الرابع عشر:
قال النووي (تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أيضاً من النصيحة التي هي الدين قال العلماء: لا يختص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات. بل ذلك جائز لآحاد المسلمين. قال إمام الحرمين والدليل عليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم من غير ولاية) وقال الأمام ابن حزم:(الأمام واجب الطاعة ما قادنا بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن زاغ عن شيء منها منع من ذلك).
وجه الدلالة:-
هذه النصوص وغيرها تبين وجوب طاعة الحاكم الشرعي في غير معصية الرحمن لما في طاعته من استقامة أمور المجتمع وصلاحه وتماسكه. ولكن وجوب طاعته لا يتعارض مع أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر والنصح له لأن هذه الأمور من لوازم الطاعة بالمعروف.

فوائد وثمرات العلنية في مناصحة الحكام:-
أن الناظر بتجرد في الفوائد والثمرات التي تعود على الأمة الإسلامية والمجتمع المسلم في علنية مناصحة الحكام ليدرك من أول وهلة أنه يعلم ثبوت مشروعيته بالقرآن الكريم والسنة النبوية سنة الخلفاء الراشدين وأقوال الصحابة وآثار التابعين لوجد أن الواقع العلمي والفوائد والثمرات المتوقعة منها تثبت مشروعها ولذلك نجد كثيراً من القوانين الوضعية في الوقت المعاصر قد جعلت مثل هذا الأمر من أبجديات سياستهم بل ونصت على وجوب ممارسته من قبل أحزاب المعارضة وجمعيات حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني.

إن الواجب علينا طالما ثبت لنا مشروعية العلنية في مناصحة الحكام بالكتاب والسنة وعمل الخلفاء الراشدين وبقية الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وقول التابعين. الواجب علينا العمل بها وذلك لأن الله قد بين لعموم المسلمين بأنه إذا قضى أمراً فإنه لا يكون للمؤمنين الخيرة في أمرهم بل يجب عليهم امتثال أمره.
قال الله تعالى:(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). 
وبقوله تعالى:(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرج مما قضيت ويسلموا تسليما).الفتح

وإن من أهم الثمرات والفوائد من إقرار مبدأ المناصحة العلنية للحكام ما يأتي:-

1- أن في ذلك امتثال لأمر الله عز وجل وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم .
2- أن في ذلك اقتداء بسنة الخلفاء الراشدين وبقية الصحابة رضي الله عنهم.
3- أن في إعلان مناصحة الحكام إظهار لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الشعيرة التي فضل الله بها هذه الأمة عن بقية الأمم في قوله تعالى:(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).
4- أن في إظهار هذا الشعيرة تحقيق صفه من صفات المؤمنين الثابتة لهم في القرآن الكريم في قوله تعالى:(والمؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
5- كما أن في الإنكار العلني على الحكام بيان أن العصمة ليست لأحد من الخلق سوى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن ربه.
6- أن في الإنكار على الحكام علناً إيصال رسالة لجميع الأمة بأن السيادة للإسلام وشعائره وأنه لا أحد فوق دين الله وأن الجميع سواء كان حاكماً أو محكوماً تحت تعاليم الإسلام ولا مزية للحاكم تمنحه حق معصية الله أو فعل محرماته.
7- أن الإنكار العلني على الحاكم أدعى لامتناع الحاكم عن الاستمرار فيما أنكر عليه كما أنه أدعى له بسرعة الإقلاع عن هذا المنكر حتى لا يهون أمره على بقية الأمة.
8- أن الجميع تحت طاولة المسائلة والمحاسبة عندما تصدر منهم أخطاء أو منكرات تضر بالأمة وأن الله هو الذي لا يسأل عما يفعل أما سواه فهم يسألون.
9- أن في الإنكار العلني على الحكام ترسيخ لمبدأ وصاية الأمة وسلطتها على الحاكم وهذا ما قرره الإسلام قبل أكثر من أربعة عشر قرناً. ولم تفطن له المجتمعات الغربية إلا في هذا العصر المتأخر.
10- كما أن محاسبة الحاكم والإنكار العلني عليه أعمال لمبدأ الشفافية والذي عمل به النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده.

وأما ما يتعلق بمناصحة الحكام في النظام فقد جاء النظام في المملكة العربية السعودية متماشياً مع النص الشرعي وروحه حيث أصبحت مناصحة الحاكم أحد الركائز فيه وذلك لما يلي:
1- أن المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم قد ذكرت أن دين المملكة العربية السعودية الإسلام وأن دستورها القرآن والسنة ونص هذه المادة :المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة , دينها الإسلام ,ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , ولغتها هي اللغة العربية , وعاصمتها مدينة الرياض .
2- كما أن الفقرة (ب) من المادة الخامسة من النظام نفسه قد نصت على: أن المبايعة تكون على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
3- المادة السادسة قد نصت على أنه :يبايع المواطنون الملك على كتاب الله تعالى وسنة رسوله. 
4- كما أن المادة السابعة قد نصت على أن مصادر الحكم هي القرآن والسنة , وأنهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة .وهذا يوضح أن الحكم في المملكة العربية السعودية ملتزم بما ثبت في شرع الله المطهر ويدل وبوضوح مقدار التزام النظام بالمملكة العربية السعودية بما أثبتت الأدلة الشرعية في دين الله تعالى وأن الأمر ليس بالتشهي حينما يصدر بالدليل.وقد بينا فيما سبق من الأدلة كيف أن القرآن الكريم قد ذكر في أكثر من موضع وجوب المناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً ولجميع المسلمين ولم يفرق بين الحاكم وشعبة ولا بين العالم والأمي وكذلك الأمر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5- كما نصت المادة الثامنة على أنه (يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية).ولعله مما يعلم بالضرورة أن من لوازم ذلك المناصحة للحاكم وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
6- كما نصت المادة الثالثة والأربعون على ما يأتي :(مجلس الملك ومجلس ولي العهد مفتوحان لكل مواطن , ولكل من له شكوى أو مظلمة, ومن حق كل فرد مخاطبة السلطات العامة فيما يعرض له من الشئون . وهذه المادة تبين وجوب المناصحة للحاكم وأن من وقعت عليه مظلمة ولم يرفع أمره إلى القيادة العليا في الدولة فإنه يكون قد فرط في حقه وبالتالي فإنه قد برأت الذمة من هذه المظلمة.



وبعد هذا الثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي نص النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية فإني أقول إن ما يقوم به البعض من إنكار هذا المبدأ الشرعي من فجر الإسلام وحتى يومنا هذا إنما يريدون إيجاد الفجوة بين الحكام وشعوبهم وهي طريقة يحاول أعداء الإسلام أن ينفذوها لإيجاد مثل هذا الخلل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم .وإلا فإننا لم نسمع عن أحد من الحكام الذين تولوا الحكم انه  قد عاتب أو عنف أو صرح بمنع المناصحة أياً كانت سواء سرية أو جهرية ما لم يكن - هذا الذي يعتبر نفسه ناصحاً - قد أراد التشهير فقط وهو كاذب فيما قال وادعى .
أيصح بعد هذا أن يقال أنه يجب ترك النصيحة أو الإسرار بها بناء على أصل شرعي أو نظامي مع العلم أن القول بذلك اتهام للأنظمة أنها قد قصرت في حق الحاكم أو المحكوم ؟!! أوفي  مد الجسور بينهما في كل ما فيه مصلحة الوطن والمواطن ؟؟؟ ومعناها أنها قد منعت شيئاً قد أوجبه الله في كتابه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته .وهذا الفعل منها لايجوز شرعا من قال بخلاف ذلك فليتق الله ربه وليعلم أن الله سيسأله عما قال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق