الجمعة، 19 أكتوبر 2012

الثورات العربية عند أهل السنة



بسم الله الرحمن الرحيم

الثورات العربية والفقه السياسي  
              
من بعدما كاد البعض أن يفقد الأمل في التغيير السياسي ورفض الظلم الصادر من الحكام المستبدين الظالمين من قبل من يطلق عليهم أهل السنة والجماعة أمام حكامهم الظالمين المستبدين ويشعر الناظر لهذا الوضع أن هناك تواطأ من علمائهم ومثقفيهم على استمرار الظلم والطغيان على عموم الشعب وذلك بسبب الفهم غير الصحيح للنصوص الشرعية وعدم إدراك حقيقي للفقه السياسي عند أهل السنة والجماعة من قبل متأخريهم،وتغفيل مقصود لتاريخ النضال السياسي عند متقدميهم وإعراض مقصود أو غير مقصود لقراءة سير عظمائهم السابقين في رفض الظلم والوقوف في وجه الاستبداد حتى فقد بعضهم حياته بسبب ذلك,وبعد أن كاد اليأس أن يدب فيهم من قدرتهم على رفض القهر والظلم والاستبداد وكاد اليأس أن يستولي على العقول والإفهام من إمكانية التغيير للوضع السياسي القائم على تمجيد الطغاة وشرعنه الاستبداد وتسويغ الظلم ووجوب القبول به والصبر عليه والرضا بالاستبداد في معتنقي هذا المذهب بسبب غياب الرؤية الشرعية المؤصلة والفهم الدقيق للنصوص الشرعية بمعناها الشامل مع حصول ما يشبه الإجماع على عدم قدرة هذه الشعوب العربية في الوقوف في وجه الظلم والاستبداد الذي تتبناه  أنظمتها الظالمة .حتى تركز في أعماق تفكيرنا إن السبب في الصبر على هذا الظلم   ما أرجعه البعض إلى جيناتنا البشرية وأن جيناتنا تشربت ذلك من العصور العربية الأولى في عهد عمرو بن كلثوم وعهد الغساسنة والمناذرة الذين كانوا خدما وحماة لأباطرة عصرهم من الروم والفرس، وكان أخطر من ذلك ما بدا يتسلل إلى بعض أذهان المفكرين ، بأن مرجع هذا الذل والاستسلام والرضا بالظلم للطغيان ، يعود إلى القراءة السياسية للنصوص الشرعية المعتمدة في الفقه السياسي عند أهل السنة والجماعة والذي جاء بعدة قواعد منها أنه  أجاز حكم المتغلب بل وشرعه وحَرَّمَ الخروج عليه فإن حصل أن خرج أحد عليه بطريقته التي وصل فيها للحكم وتغلب الخارج فإنه في هذا الفكر يعتبر شرعيا ويجب على الجميع أن يدين له بالطاعة مهما بغى وطغى ،وهذا الفكر يجعل حياة الناس غير مستقيمة على الحال (لأن كل من شعر في نفسه القدرة على الخروج فإنه سيحاول فإن نجح استقام له الأمر وإلا فإنه يمكنه الهرب وإعادة استعداده وهذا في نظري لا يمكن أن يقول به من يرغب في استقرار أحوال الناس ) بل واعتمد زيادة في نص حديث نبوي اختلف فيها علماء الحديث تفيد بوجوب السمع والطاعة وإن أخذ مالك وجلد ظهرك ، خوفا من أن يؤدي رفض هذا الظلم والتبرم منه إلى فتنةٍ أكبر من فتنة الصبر على الطغيان والظلم  ولقد اثبت بعض المتفقهة نجاحاً باهرا  في ترويج هذه القراءة الضعيفة  لفقهنا السياسي متأثرا بقصد أو بغير قصد بوجوب مخالفة فقه الشيعة السياسي  والذي يجعل الخروج على الحاكم الظالم المستبد فريضة يجب على الجميع القيام بها بقدر استطاعتهم ولا يجوز بأي حال من الأحوال التفريط بها مهما كانت التضحيات المبذولة في ذلك وبغض النظر عن النتائج سواء حصلت أم لم تحصل.

ولقد أثر ذلك في أفكار كثير من المفكرين خاصة وهو يسمع ويشاهد الفرق الواضح بين استسلام الشعوب التي تتبنى مذهب أهل السنة والجماعة القانعة بالاستسلام والخنوع لحكامها والصابرة على ظلمهم وبين الرفض الواضح والصريح من الشيعة للظلم والذي أنتج ثورة الشعب الإيراني في بداية هذا القرن ضد نظام الشاه المستبد.

شعوب رفضت الاستبداد و الخنوع والذل والاستسلام 

تأثر الإنسان العربي بمشاهد رفض الظلم من كل شعوب العالم المتقدم والمتأخر الأبيض والأسود الشرقي والغربي حتى لم تعد توجد منطقة في العالم تصبر على طغيان السلاطين إلا المنطقة العربية سمع بانتخابات نزيهة لرؤساء دول صغيرة وكبيرة في أدغال إفريقيا وفي صحاري استراليا وحرم هو حتى من حق حرية الرأي والتعبير في أموره الخاصة فضلا أن يسمح له أن يبدئ رأيه في أمور دولته العامة ,إنها وقائع أثرت في الإنسان العربي أثرا لا يمكن أن يُنْكَره أحد ، خصوصا إذا أشاح بوجه تجاه عالمه العربي ، فرأى في مقابل ذلك أنظمة تحولت إلى مجموعة من الوكلاء للأعداء الغربيين والشرقيين وحراسا أمناء ومخلصين على مصالحهما ، وشاهد شعوبا ذللت وأهينت فأدمنت الخنوع والذل والاستسلام ، ورضيت بالعيش في الحفر ، وأبدعت في تقديس ظلمتها وناهبي خيراتها و التصفيق لجلاديها والدعاء لهم فوق المنابر ، وقبلت أن تُطْحَنَ لتباد بين مطرقة أجهزة المخابرات الفاسدة التي أطفأت فيهم نور الكرامة الذاتية ، وسندان الشهوات والشبهات التي قتلت فيهم كرامتهم وإنسانيتهم وغيرتهم وحياءهم .

إن المقارنة بين مشهد بلاد يغلب فيها من يتسمون بأهل السنة والجماعة ترضى بالذل والخنوع وإهدار الكرامة لحكامها المستبدين وبلاد يكثر فيها من يتسمون بالشيعة ترفض ذلك رفضا قاطعا بكل ما أوتيت من قوة سلمية فرضت عددا كبيرا ومتداخلا من الأسئلة التي صعب على رجل الشارع الإجابة عنها ولو في ذهنه فقط ، واستدعت كثيرا من الإشكالات التي لم تجد لها طريقا لحلها ، ولعل أخطرها ما يمكن أن أسميه فتنة تحميل الفقه السياسي عند أهل السنة والجماعة تبعات حالة الذل و الإهانة والخنوع الذي يعيشه أهل السنة والجماعة  ، وهو الأمر الذي لم ينجح العلماء العاملون بالتصدي له وهزيمته  حتى أصبح حقيقة لا تقبل النقاش وواقع يفترض الرضا به وموافقته وعدم محاولة رفضه وما لبث الناس طويلا ،وقبل أن يكملوا قرنا من الزمن  حتى جاءت شعوب غلبت فيها مظاهر الكرامة على لباس الإهانة ونسائم الحرية على رياح العبودية فثارت شعوب أبية وكريمة في تونس ثم مصر ثم ليبيا  ثم اليمن وسوريا ، لِتُلْقِمَ المتحاملين على فقهنا السياسي حجرا كبيرا ، ولتثبت أن شعوبنا وإن صبرت على ظلم حكامها طويلا أملا في أن يبادروا بالإصلاح ، فإنها لم تنس واجبها الشرعي المرتكز إلى حقها الشرعي المقدس والدستوري المنظم ، في أن ترفض الاستبداد والظلم والعبث فيها وأن تقوم في وجه ظالميها سلميا ، نعم سلميا ( وهذا ما أبهر الشرق والغرب )، فتحقق التغيير المطلوب ، وتلتحق بالأمم المعاصرة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا بل أن كثير من الأمم كالصين وغيرها احتذى حذوها واستعار عباراتها ونهج منهجها لأنها أصبحت قدوة ونموذجا بعد أن كانت تبعا.

الثورات خدمة الإسلام بإظهار صورته الحقيقية

جاءت الثورات الشعبية العربية السلمية بفوائد جمة لم تقتصر فيها  على التغير السلمي -المحافظ على المقدرات والمقومات- للأنظمة المستبدة الفاسدة فقط ، وإنما  جاءت هذه الثورات السلمية الشعبية لتقدم خدمة جليلة لإسلامنا العظيم وتحسن صورته التي شوهته بعض أفكار المستضعفين والجبناء وراضعي الذل والهوان و الذي ظلمته أنظمة حكام الطغيان أكثر من أعدائه ، حيث أثبتت هذه الثورات عمليا لا قولا فقط  بأن  النصوص الشرعية المنتجة لفقه أهل السنة والجماعة  السياسي  لا يمكن أن تكون مرضعا للخنوع ومربيا على الاستبداد ولا مرغبا في الصبر على الظلم وبالتالي فلا يكون معيقا لثورات الشعوب السلمية على حكامهم الطغاة ، بل على العكس تماما ، ستظل هذه النصوص الشرعية الصحية المنتجة للفقه السياسي هي المحرك الحقيقي لثورات وحركات الشعوب الإسلامية  في مواجهة ظالميها ، وهي الدافع لثوراتها ضد  جلاوزتها وجلاديها ، والمحرض الفاعل والمثير المنتج لها للقيام في وجه الحكام المستبدين والرؤساء المغتصبين لحقوق الأمة والمفرطين بمصالحها , والنصوص في ذلك كثيرة  يكفينا منها في هذا المقام للاختصار ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في وصفه لحال أمته  في آخر الزمان وهي  الآن  نعيشه واقعا  بلا شك ، وبين واجبها حياله  أفرادا و جماعة ... يقول النبي صلى الله عليه وسلم :(يكون في آخر الزمان أمراء ظلمه ، ووزراء فسقه ، وقضاة خونه ، وفقهاء كذبه ، فمن أدركهم فلا يكون لهم عريفا ولا جابيا ولا خازنا ولا شرطيا )  وغيره من النصوص التي تبين بوضوح أنه لا يمكن للحاكم الظالم أن يقوم بذاته في ظلمه ولكنه يقوم بغيره المساعد له ، فإن فقد المستبد أعوانه ومن حوله ، زال المستبد  الجائر وزال ظلمه  ،وهذا ما يسوغ ما روي عن الأمام أحمد أن صاحب الشرطة سأله يا إمام هل أنا من أعوان الظلمة قال  له الإمام أحمد لا لست من أعوان الظلمة بل أنت من الظلمة أنفسهم إنما أعوان الظلمة من يغسل الثوب ويخصف النعل. وقد بين ذلك ابن تيمية رحمه الله حينما اعتذر منه سجانه الشرطي بقوله إنما أنا مأمور فقال ابن تيمية:(لولاك ما ظلموا ) وهذا هو القانون الرباني الذي لا يمكن أن يتغير ولا يمكن أن يتبدل و إدراك هذا يوجب على جميع من كان من أعوان الحكام الجائرين والظلمة المستبدين أن يسارع في ترك مساعدتهم في ذلك الأمر حتى يساهم في فشلهم وإزالة ظلمهم . كما أخرج الترمذي وصححه، والنسائي، والحاكم وصححه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني، وأنا منه، وهو وارد علي الحوض . 
وأخرج البخاري في تاريخه وابن سعد في « الطبقات » عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: « يدخل الرجل على السلطان ومعه دينه، فيخرج وما معه شيء )

إن النصوص الشرعية الموجبة لرفض الظلم أكثر من أن تحصى في هذه العجالة لكن ما يجب التنبيه إليه أن النصوص الشرعية التي سوغت الرضا بالظلم و أوجبت الصبر عليه لا تخلوا من أمرين إما أنها ضعيفة أو أنها من المتشابه الذي يجب رده إلى المحكم من النصوص الموجبة لرفض الظلم والحاثة على التصدي له والموضحة لحرمته, مع العلم أن نصوص حرمت الظلم ووجوب رفضه صحيحة واردة في القران وصحيح السنة .وهذا يدلنا بشكل واضح وجلي على أن الثورات العربية ضد الحكام الظلمة تتوافق مع منهج أهل السنة و الجماعة في وجوب رفض الظلم والاستبداد وعدم الرضا به وأن هذا هو ما يتوافق مع الأدلة الشرعية الصحيحة المحكمة من الكتاب والسنة وأن منهج الذل وإهدار الكرامة البشرية أمام الحكام الظلمة ليس من منهج أهل السنة والجماعة الحقيقيين الملتزمين بما دلت عليه نصوص الوحيين الصحيحة من الكتاب والسنة.



هناك تعليق واحد: