الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012

وجوب الانتصار من الظالم


       



بسم الله الرحمن الرحيم
                                  

الظلم ظلمات:
لابد أن نعلم حقيقة أزلية ومعلومة قطعية لا يمكن لعارف عاقل أن ينكرها أو يشكك فيها وهي أن الظلم ظلمات في الدنيا ويوم القيامة، يؤدي إلى هلاك الأمم والدول، ويفسد الحرث والنسل، وينشر الذل والجريمة ,وأن الله عز وجل قد توعد الظالم بالعقوبة الأخروية  قال تعالى: ((فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم)) وقال تعالى: ((وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع)).وكلما كان الظالم أقوى كان ضرره أكثر وخطره أعم  وأجر ومثوبة المنكر عليه أعظم ولذلك أصبح من أوجب الواجبات في الدين الإنكار على الظالمين ، ومنعهم من الظلم قدر الإمكان وعدم الاستكانة لهم ولا الركون إليهم، وذلك من أسباب نجاة الأمة مما قد يحل بها من عقاب أو هلاك بسبب الظلم الواقع فيها.


مسؤولية دفع الظلم ورده:
ومما يدل على ذلك ما رواه الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: ((يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم))، وأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم بعقاب منه) ، ومن ذلك ندرك إن الفرد بخصوصه والأمة بعمومها مسئولون عن أنفسهم أمام الله لا يضرهم من ضل إذا اهتدوا, إلا أنهم محاسبون على التقصير في رفع الظلم عن أنفسهم وعن غيرهم وردع الظالم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة إلا في استشعار وجوب مكافح الشر وأسبابه وفضح فاعليه ، ومقاومة جميع أنواع المنكر و الضلال والظلم  ومحاربة الظلم والطغيان والفساد.

الانتصار من الظالم:
ورد الظالمين عن ظلمهم من أهم خصائص المسلم ومميزات المجتمع الإيماني وهي صفة من صفاته الأساسية ومقوماته الضرورية ،ولذلك امتدح المؤمن بصفة الانتصار من البغي وعدم الخضوع للظلم، كي لا يتبجح الشر ويطغى، حين لا يجد رادعاً يكفه عن الإفساد في الأرض فيمضي وهو آمن مطمئن.
قول الله تعالى: ((والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون))، يقول القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية (أي ينتقمون ممن بغى عليهم ولا يستسلمون لظلم المعتدي، ويقول إبراهيم النخعي رحمه الله في تعليقه عليها عن هذه الصفة من صفات المؤمنين من السلف الصالح المصلح وممن تبعهم بإتباع الحق  : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفاسق)
 وقد أوجب الله تعالى على المؤمنين جماعات ووحدانا الإنكار على الظالم وعدم جواز السكوت عن الظلم لأن الأمة والمجتمع لايمكن أن يصلحان ولا تصلح حالهم  مع انتشار الظلم واستشرائه وتجبر الظالم وتكبره وتعاليه وخضوع الناس له وخوفهم منه وعدم قدرتهم على كف ظلمه ومنع فساده ورد  ظلمه وبغيه والتصدي لجوره ,ولذلك فإنه لابد إذا أن يجد الظالم مهما كان صغير أو كبير وزيرا أو أميرا حاكما أو محكوما أن يجد من يقاومه ويرد ظلمه ويمنع بغيه قبل وقوعه ويقتص منه ويعاقبه بعد وقوعه ولذلك أمرالله القادرين ممن وقع عليهم الظلم ألا يستكينوا للظالم ولا يخافوا من بطشه وجبروته وأن ينتصروا من الظالم الباغي وألا يسكتوا عن بغيه وظلمه يقول الألوسي في تفسير الآية السابقة : (أي ينتقمون ممن بغى عليهم على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتدون)  (47/25).

فضيلة عدم السكوت عن المظالم:
يقول ابن العربي عند تفسيرالاية السابقة : (ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح.. فيكون الانتقام منه أفضل وهذا يدل على فضيلة عدم السكوت عن المظالم التي تقع على الإنسان وأن منهج بعض المثبطين بالسكوت عن الظلم منهج يتعارض مع نص أمر القران الكريم وأما الإمام الشوكاني رحمه الله فقد قال : (أي أصابهم بغي من بغى عليهم بغير الحق، لأن التذلل لمن بغى ليس من صفات من جعل الله له العزة حيث قال ((ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين))، فالانتصار من الباغي عند البغي ورد ظلم الظالم عند وقوعه فضيلة مطلوبة وإن كان أصل البغي ليس من صفات المؤمنين، لكن الذلة والمهانة والاستكانة ليست من صفاتهم أيضا بل هي من صفات وخصائص أعدائهم الجاهلين بربهم والكافرين به.

الركون للظالمين:
يغري الشيطان المؤمن بالسكوت عن الظلم أحيانا والركون إلى الظالمين ومجاراة البغاة المفسدين بحجة انتظار انتقام الله من الظالم في الدنيا أو انتظار عقوبته في الآخرة  أو انتظار المثوبة على هذا الصبر في الدنيا والآخرة وهذا من وساوس الشياطين وتسويف المفسدين وتوهيم الضالين المضلين لأن الله عز وجل قد حرم حرمة قطعية بنص القران الرضا بالظلم والركون للظالمين بأي نوع من أنواع الركون إليهم، وذلك لأن السكوت عن الظلم وعدم إنكاره وانتشاره في المجتمع واستشرائه في الأمة بسبب سكوت الناس عنه وترك إنكاره ولأن الظالمين الفاسدين المفسدين لا يمكن أن يصدر منهم منكر أو يرتكبوا مظالم إلا بأعوانهم على الباطل وتشجيعهم لهم أو بسكوت أهل الحق عنهم أو بركونهم إليهم.
قال الله تعالى لعباده المؤمنين محذرا لهم من السكوت عن الظلم والركون للظالمين : ((ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون)).
ففي هذه الآية دلالة قطعية على حرمة الظلم وجرم فاعليه وعظم ذنب الراكنين إليهم مهما كانوا هؤلاء من علماء أو عوام فقراء أو أغنياء متعلمين أو جهال كما أن فيها نهيا صريحا عن الميل  إلى الطغاة الضالين المضلين الظالمين، بأي ميل كان سواء أكان هذا الركون والميل بالصحبة والمعاشرة والمسامرة والمصاحبة أو بالميل القلبي والتوجه الروحي ، وتوعد الله الراكنين إلى الظالمين والساكتين عن الظلم بالعقوبة المنصوص عليها في الآية لأن هذا يعتبر بغي وإقرار لظالمين على ظلمهم ومشاركة لهم فيه ، والعقوبة هي ما نص الله عليها في قوله تعالى (فتمسكم النار).
قال البيضاوي: (الركون هو الميل اليسير أي لا تميلوا إليهم أدنى ميل، فتمسكم النار بركونكم إليهم، واذا كان الركون اليسير إلى من وجد منه ما يسمى ظلماً كذلك، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم، والميل إليهم كل الميل) التفسير، ص(258).ويقول الزمخشري : (ولا تركنوا، من أركنه إذا أماله، والنهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومراهنتهم والرضا بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم) (433/2).
أما الشوكاني فقد عرف الركون بقوله: (الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة، أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، أنه يعذبكم بسبب الركون الذي نهيتم عنه فلم تنتهوا) وكذلك لا يجوز معاونة الظالمين على ظلمهم بأي شكل من أشكالها، لأنها تقوية لهم لتنفيذ ظلمهم، فيعمهم العذاب.والله عز وجل أمر بالتعاون على البر والتقوى ونهى عن الإثم والعدوان في قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).       

عاقبة جنود الظالم وشيوخه المعينين له على ظلمه:
يعتقد بعض أعوان الظلمة من جنود وحرس ومساعدين ومستشارين ومفتين وأصحاب وندماء ورفاق أن عاقبة الظلم إن نزلت فإنها سوف تكون خاصة بالظالم وإنهم سوف ينجون منها لأنهم نسوا أو تناسوا أنه لا يمكن أن يقع الظلم لولا حراسة الحراس وحماية الجنود ومساعدة المعاونين وفتاوى المفتيين المبيحين للظلم أو المهونين من عقوبته أو المبيحين له تلافيا لما يزعمون أنه فتنة أو أن هذا مما يباح له دون غيره. وهذا الكلام ليس بصحيح مطلقا بل أن عاقبة الحارس والجندي والمفتي والنديم مثل عاقبة الظالم وهو ما نص الله تعالى عليه في أكثر من أية ومنها قول الله تعالى عن فرعون : ((فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين(( وكما قال الله تعالى: ((إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين)) فالله تعالى جمع فرعون وهامان وجنودهما بوصف الخطيئة ومنها الظلم وجعلهم جميعاً ظالمين، فأهلكهم. أما من وقع منهم الظلم مباشرة  فعاقبهم بظلمهم وأما الجنود والحراس والأصحاب والمفتين والندماء  بسب إما سكوتهم  أو بسب تمكينهم الظالم من الظلم أو بسبب حمايتهم له أو بسبب إباحة الظلم له أو تسويغهم لفعله الظلم  وهذا يوضح بجلاء أنه يجب إنكار الظلم وأنه لا يجوز أن يعان الظالم على ظلمه بتركه بولايته أن كان واليا او حاكما ,أو في إمارته إن كان أميرا أو في وزارته إن كان وزيرا أو في مدرسته إن كان معلما أو في مسجده إن كان إماما ونحوها  أو  بقائه في مركزه أو منصبه، لان في بقائه استمراراً لظلمه، الذي يجب على المسلم أن يزيله كما يجب عليه القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو أصل من أصول الإسلام بل جعلها الله ميزة تميزه بها هذه الأمة عن بقية أمم الأرض  قال تعالى: ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون((.
كما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم.
وهذا خطاب الوارد في هذا الحديث شامل لجميع إفراد الأمة علمائها وجهالها كبيرها وصغيرها ذكرها وأنثاها في وجوب إنكار المنكرات بجميع أنواعها وأشكالها  وإزالتها بشتى الطرق الممكنة والمشروعة ،يقول ابن تيمية/ترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم وكلاهما ذنب عظيم)الفتاوى 28 /188

أهم المنكرات التي يجب الانتصار من فاعلها:
إن من أهم المنكرات التي يجب على المسلمين بجميع شرائحهم الانتصار من فاعلها والتصدي لها والإنكار على مقترفيها  منكرات الولاة والسلاطين سواء ما تعلق منها بالدنيا أو الدين  وذلك بسبب أن مثل هذه المنكرات تنتشر في المجتمعات انتشار النار في الهشيم وذلك لأن منكرات السلاطين قلما تجد من ينبري لإنكارها بحكم قوة السلطان وجبروته وخوف الناس من اعتدائه وظلمه ولأن كثيرا من القوة الحسية والمعنوية تساند السلطان في ممارسته للمنكرات فهو يملك سيف المعز وذهبه فمن لم يخف من بطشه أغراه بذهبه ومن استغنى عن ماله رجي سلطانه ومن تورع عن سلطانه أهابه بقوته وبطشه ومن تلك المنكرات التي تصدر عن الولاة والسلاطين الظلم في الدنيا والدين بجميع أنواعه وأشكاله  فكما يضيق على الناس في دينهم فإنه يضطهدهم في دنياهم ولذلك فإن من أهم الأساليب المفيدة في دفع هذه المنكرات السلطانية هو وجوب العمل على عدم ترشيح الظالم فاعل المنكرات أصلا وابتداءً للولايات حتى لا ينقل ظلمه إلى الأمة فتصاب من ذلك بالضرر الكبير والخلل الجسيم حيث إن من كان ظالما فاعلا للمنكر قبل توليه للمنصب والولاية فإنه بعد توليه لها أشد ظلما وفعلاً للمنكرات خاصة وأنه تتوفر له بعد الولاية من القوة والتمكين ما لم يستطع الحصول عليه قبل ذلك .ومن الأساليب المعينة على إنكار المنكرات ودفعها بعد تولية للولاية العمل على تنحيته عن الولاية والسلطان والمناصب المؤثرة في الشأن العام  إذا كان قد سبق توليه عليها  على أن يكون ذلك التغيير بالطرق  السلمية إن توقف تغييره عليها لإزالته النهائية بها  وذلك لأن في التغيير والتنحية بالطرق السلمية تحصيل للمنفعة وتلافي للأضرار المترتبة على التغيير بطرق القوة والعنف وإن تيسر تغيير المنكر الصادر من الولاة والسلاطين والحكام  بغير تنحية من تولى مما يتمكن معه الشخص المنكر من إزالة المنكر بالإقناع فهو بلا شك أفضل فإن لم يستطع تغييره بذلك ، فيغيره بالوسيلة الثانية وهي التغيير باللسان عن طريق النصيحة والبيان والتوجيه والإفصاح والتوبيخ والإيضاح ، فإن لم يستطع المنكر التغيير بهذا الوسيلة ، فإنه لم يعد أمامه إلا أن يكون إنكاره بقلبه في رفضه الداخلي للمنكر وبكراهيته له  وعدم الرضا عنه، وهذه الوسيلة الثالثة هي أبسط الوسائل وأقلها تأثيرا في إزالة المنكر ولذلك عدها النبي صلى الله عليه وسلم  أضعف الإيمان .
والواجب على المسلم أن يختار قوة الإيمان بدلا من ضعفه ومن لوازم قوة الإيمان أن لا يلجا للإنكار القلبي لأن المسلم إذا كان  قوي الإيمان، فإنه يقول الحق ويعمل به في كل مكان وزمان ولا يخاف في الله لومه لائم. وتلك هي الصفة التي فضلت في المؤمن كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير) رواه مسلم.
فهذا الحديث يبين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن قوي الإيمان  المتمسك بتعاليم الإسلام المتبع لتوجيهاته، المنفذ لأحكامه، المجاهد في سبيله ، خير وأحب إلى الله عز وجل من المؤمن الضعيف
وهذه هي الصفات التي يجب على المؤمنين الاتصاف بها  في كونهم أقوياء في أبدانهم وأجسادهم وعقيدتهم ومعتقدهم  وأفكارهم وعقولهم وأخلاقهم وصفاتهم ، خاصة وأن منكرات السلاطين يعتمد فاعليها على قوتهم وبطشهم وجبروتهم فيحتاجون في الإنكار عليهم إلى من يستشعر قوة الإيمان وعزة الإسلام ولذلك صار المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل منهما خير. 







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق