الأربعاء، 19 ديسمبر 2012

الافتيات من الحاكم وعليه


بسم الله الرحمن الرحيم

أصبحت مسالة الافتيات من التهم التي يتهم بها كل صاحب رأي سديد يرفض الظلم والاستبداد أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى شعر الناس أن من لوازم الطاعة الشرعية للحاكم الاستذلال له وفقدان الكرامة من أجله والتنازل عن الحرية لمرضاته وتحمل الظلم منه والصبر عليه مما جعل هذه الأمور من التهم التي تنسب لأهل السنة والجماعة على أنها من أصولهم العقدية مع الحكام بعدما كانوا يتهمون غيرهم بها وأصبح البعض يعتبر أن مسألة الافتيات خروجا على الحاكم يجيز دم الخارج وماله وعرضه , وهذا التلازم الذي يريد البعض إيجاده بين هذين الأمرين أزال هيبة الخروج وبدا البعض يتساهل فيه كثيرا وهذا أمر طبيعي لأن الإكثار من الاتهام بأمر يزيل هيبته من النفوس ولذلك فإن من يوجه هذه التهمة لكل مطالب بالإصلاح ولكل آمر بالمعروف وناهي عن المنكر فإنه يساهم بشكل واضح في استهانة الناس بالخروج على الحاكم والدعوة إليه وهذا هو الفتنة الحقيقية ولذلك فإنه يجب محاسبة من يقوم بهذا وتأديبه عن ذلك.

وأسباب هذا كثيرة لكن من أهمها:
1) الفهم المغلوط للنصوص الشرعية وتصحيح بعض النصوص الضعيفة واعتبارها من أصول الدين واعتماد النصوص التي تعتبر من المتشابه وترك النصوص القطعية والتي تعتبر من المحكم وعدم رد المتشابه إلى المحكم من النصوص الشرعية.

2) الفهم الجزئي للإسلام نتيجة نظر النصوص بشكل جزئي وهذا بسبب إهمال النظر في مقاصد الشريعة حتى شعر الناس أن هذه الحياة إنما أوجدت لمصلحة الحاكم وأهل بيته وإخوانه فقط دون بقية الناس فهم لا يعدون كونهم خدم خلقوا لقضاء مصالح الحاكم والتذلل له.

3) الجهل الذي أطبق على كثير ممن تصدروا للعلم الشرعي والذي أدى بالحاكم إلى تصديرهم للفتوى ليفتوا بتقديسه وتعظيمه ويبيحوا له ما حرم الله على نفسه من ظلم وإهدار للكرامة الإنسانية.

4) ضيق أفق من قدمهم الحكام للإفتاء بين الناس ممن سماهم مشايخ أو علماء حتى وصل الأمر بهم أن اعتبروا كل مطالب بوجوب العدل أو الشورى أم مطالب بحقه من حرية وكرامة ومطالبة برفع الظلم خارجي يجوز قتله أو اعتقاله وتقييد حريته.

5) الخوف الذي أطبق على كثير ممن تصدر للفتوى والذي أودى بهم إلى الإفتاء بغير الحق خوفا من انتقام الحاكم الظالم المستبد مما أدى به إلى البحث في بعض أقوال السابقين المسوغة لظلم الحاكم حتى يقنع نفسه ويقنع غيره بصحة ما يفتي به. 

وبعض هذه الأسباب سبق مناقشتها في عدة مقالات وبحوث سابقة مما يغني عن إعادة تكرارها هنا ولذلك سوف اقتصر هنا على موضوع واحد منها وهو ما يتعلق بانعقاد البيعة بين الحاكم والمحكوم وكيفية نقضها من أحدهما أو كليهما لنبين بعد ذلك مسالة الخروج على الحاكم والتي أصبحت تهمة جاهزة توجه ضد كل من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو كطالب بحريته أو حقه أو كرامته التي حفظها له الإسلام.

ماهية البيعة الشرعية ولوازمها ؟؟؟
البيعة هي عقد شرعي اجتماعي  بين الحاكم والمحكوم يلتزم فيه الحاكم بالقيام بمصالح الناس أو الشعب الذين بايعوه والقيام بعد مشاورتهم عن طريق عرفائهم ومرشحيهم ونوابهم بأمور دينهم ومصالحهم وحفظ أموالهم وأعراضهم  وتوفير الأمن لهم والدفاع عن بلادهم وعدم الاستئثار بشي من ممتلكاتهم أو أموالهم أو أراضيهم أو مصالحهم وإنما يكون في كل شي كواحد منهم فلا يجوز له شرعا أن يزيد عليهم بشي من ذلك ولا تقديم أقاربه عليهم أو تمييزهم بألقاب تشعرهم بعزة نفوسهم وذلة غيرهم فلا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى . وأن يعدل بينهم في كل شي , وأن يشاورهم في كل ما يريد عملهم بحيث أنه لا يستأثر بأمورهم دون علمهم(عن طريق نوابهم وعرفائهم ) فإذا فعل ذلك صح تسميته حاكما شرعيا و كان له حق الطاعة والتسليم في المعروف  وإن لم يفعل ذلك فإنه لا يصح شرعا تسميته حاكما شرعيا ولا تنطبق عليه النصوص الشرعية التي تكلمت عن الحاكم الشرعي وبالتالي فإنه لا تثبت له حقوق الحاكم الشرعي من سمع وطاعة بالمعروف .
ومن هنا ندرك أن من لوازم البيعة الشرعية قيام الحاكم بهذه الأمور الواجبة عليه شرعا أولا قبل التزام المحكومين بواجباتهم فإذا قصر الحاكم بما وجب عليه فإنه لا يلزم المحكوم طاعته لأنه خالف شروط البيعة أولا.

من لوازم البيعة الشرعية أيضا أن يلتزم الحاكم بالعدل الشرعي الذي أمر الله به في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة ومن لوازمها أيضا الشورى التي أوجبها الله على نبيه المؤيد بالوحي مما يدل على أن وجوبها على غيره من باب أولى  ومن لوازمها أيضا أن يمحض المحكوم نصحه وتوجيهه للحاكم للنصوص الكثير ومنها حديث الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم وأن لا يكون خوف المحكوم من انتقام الحاكم سببا في تركه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تركه لقول الحق لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر). بل ولا يكون خوفه من قتل السلطان له مانعا من قوله بالحق وأمره به لقوله صلى الله عليه وسلم (سيد الشهداء حمزة ورجل قام أمام سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله).

سلطة الحاكم فرع من سلطة الامة
سلطة الحاكم فرع من سلطة الأمة وهذا ما يبين أهمية سلطة الأمة لأنها الأصل وسلطة الحاكم  فرع منها ولذلك فإنه يجب أن يعلم الجميع أن الأمة مصدر السلطة وليس الحاكم ولذلك خاطب الله الأمة ممثلة بالمؤمنين والمسلمين في أكثر من ثمان وثمانين موضعا في القرآن الكريم. ولم يجعل خطابه في التكليف موجها للحكام ولا للعلماء بل جعله موجها لعموم المسلمين والمؤمنين وهذا يدل على أن الأمة بعمومها هي المخاطبة بالتكليف(وليس الحكام والعلماء أو ما يسميه البعض أهل الحل والعقد) لأنها مصدر السلطة وكذلك الرسول خاطب الأمة وأبو بكر يقول في خطبة البيعة (وهذا أمركم إليكم تولوا من أحببتم وانأ أجيبكم على ذلك فأكون كأحدكم)  ومعرفة هذا تبين لنا أن المحافظة على حقوق الأمة أولى وأوجب من المحافظة على حقوق الحاكم.


تعريف الافتيات
عرَّفَ ابنُ الهمام "الافتيات" في شرح فتح القدير بأنه "الاستبداد بالرأي وهو افتعال من "الفوت"" وهو السبق، كاستبداد الحاكم بفعل شي بناء على رأيه فقط دون رجوع منه لرأي نواب الأمة و عرفائها أو استبداد أحد الأفراد بانفراده بإقامة ما كان واجبا على الإمام إقامته أو استبداد الإمام بانفراده بأمر أو فعل ليس له فعله بمفرده دون إذن الأمة ممثلة بنوابها وعرفائها المنتخبين منها, ومعنى هذا فالاقتيات تجاوز الإنسان حده بفعله ما أوكل إلى غيره فعله فإذا كان الفعل واجبا وقصر في فعله من أنيط به الفعل ففعله غيره لم يكن ذلك الفاعل مفتاتا مثل/ماذا وجب على شخص حد الرجم بالزنا فأقامه عليه أحد بدون تفويض من الحاكم فإنه يعتبر مفتاتا فإن لم يقم الحاكم الحد عليه وأقامه عليه شخص آخر فإنه لا يعتبر ذلك الشخص مفتاتا.

افتيات الحاكم على الأمة
هذه المسألة لم أرى من تكلم عنها بإسهاب في هذا الوقت خاصة في العالم العربي والإسلامي والذي يغلب عليهما الاستشراء الظاهر لسلطة الحاكم في الوقت الذي تضمر فيه سلطة الأمة فتنعدم مظاهر تمثيل الأمة بشكل واضح وصريح في ضل الغياب لسلطة الأمة بمعناها الدستوري.

وبناء على ذلك فإنه يكون الافتيات من الحاكم  على الأمة بفعله وحده ما كان واجبا على الأمة فعله  كأن يأمر بأمر أو يفعل فعلا ليس داخل ضمن اختصاصه وإنما هو من اختصاص الأمة الذي يمثلها في ذلك عرفائها ونوابها فإنه يعتبر قد افتات على الأمة مثل إن يعتدي على حق الأمة في عقد العهود والمواثيق دون اخذ موافقتها أو إذنها  والدخول في الحروب وعقد الصداقات أو قطع العلاقات مع الدول بدون استشارة الأمة أو من أجل مصالح الحاكم الخاصة أو من أجل مصالح عائلته والمقربين له  وعقد مواثيق السلم أو الاقتراض على ميزانية الأمة أو تصرفه بمالها ونحوه والعفو عن المجرمين المفسدين في الأرض ومثل ما لو أنه لم يقم الحكم بفعل شي كان الواجب عليه أن يعمله لمصلحة الأمة ولذلك فإنه يعتبر من افتئات الحاكم على الأمة تدخله في تعطيل الحدود أو إسقاط العقوبات والتعزيزات,وذلك لان من لوازم البيعة الشرعية أن تكون تصرفات الحاكم مقيدة بالمصلحة الظاهرة للأمة فإذا تصرف تصرفا مخالفا للمصلحة فإن تصرفه ذلك يعتبر اقتياتا منه على حق الأمة لا يجوز إتمامه وإذا تكرر منه ذلك وجب عزله لأنه ناقض البيعة واخل بها بفعله ما ليس من مصلحة المسلمين عمله , ومن المعلوم أن العمل بما يعارض مصالح الأمة معصية شرعية ولا طاعة للحاكم في معصية الله ، وإنما يطاع في المعروف لا في المنكر ،

قال ابن تيمية رحمه الله:(وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعوا إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينصب لهم كلاما يوالي عليه ويعادي عليه غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا وكلاما يفرقون به بين الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون ) مجموع الفتاوى 20/164.



وقال الجويني في غياث الأمم مبيننا عدم جواز الصبر على الحاكم إذ تخلى عما التزم به في البيعة الشرعية:(إذا انسل الحاكم من الدين فإن الأمة في تأخير إقالته بعد ثبوت ردته آثمة عاصية )
وقال الغزالي في إحياء علوم الدين:( أن السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته , فهو إما معزول أو واجب العزل  وهو ليس بسلطان على التحقيق.)
وهذا أيضا ما نص عليه الإمام ابن حزم رحمه الله في قوله :(الواجب إن وقع من السلطان شي من الجور وإن قل أن يكلم فيه فإن أذعن وانقاد فلا سبيل إلى خلعه وان امتنع عن الحق وجب خلعه وإقامة عدل مكانه).

الافتيات على الحاكم
وكما يكون الافتيات من الحاكم على صلاحيات الأمة وحقوقها,فإنه يكون أيضا من بعض أفراد الأمة على الحاكم وذلك إذا التزم الحاكم بالبيعة الشرعية وبلوازمها المرعية وتجنب الافتيات على الأمة في حقوقها وقام بما أوجب الله عليه في ذلك وجبت له الطاعة في المعروف وحرم الخروج عليه أو الافتيات على صلاحياته وتجاوز واجباته ووجب على أفراد الأمة الالتزام بذلك واعتبر كل من تجاوز على ذلك مفتاتا يجب محاسبته على فعله و افتياته على صلاحيات الحاكم وبناء على هذا فالافتيات لا يكون إلا بفعل شي كان الواجب على الحاكم فعله لمصلحة الأمة  ويجب أن تكون العقوبة في ذلك تعزيرية لاتصل بالمفتات إلى حجزه وحبسه فترات طويلة أو تعذيبه أو بتر احد أعضائه أو فوات نفسه تحت التعذيب .أما ما يحاول به البعض من اعتبار مناصحة الحكام والمسئولين ومراجعته في أوامرهم وتصرفاتهم والإنكار عليهم  أفتيات على الحاكم فإن هذا الكلام غير صحيح .

وقد حصل هذا مثل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث اختلف معه بعض أصحابه كعمر بن الخطاب في مواطن كثيرة ولم يقل النبي عمن اختلف معه أن قد افتات عليه وإذا كان لا يقال لمن خالف النبي مفتاتا فإن غيره من باب أولى. كما أن هذا من تقديس الحكام واعتبار أن كل ما يتصرفون به حق وان لا يجوز مخالفتهم وهذا مخالف لمنهج الإسلام الذي أوجب مناصحة الحاكم بجميع الطرق الممكنة سرية وعلنية (انظر بحث/مناصحة الحكام بين الشرع والنظام) وهو ما أدى إلى استبداد حكام المسلمين وطغيانه واعتبارهم أن الشعوب المسلمة عبيد ومماليك لهم من حقهم أن يتصرفوا بهم كيفما شاؤا وأرادوا واعتبارهم أموال الأمة مملوكة ملكا خاصا بهم يأخذون منهم ما أرادوا ويمنحون من أرادوا من أقاربهم وأبنائهم وإخوانهم بل أحيانا يعطونه لأعداء الأمة انظر بحث(حكم عبث الحكام في المال العام) وبحث(وجوب الإنكار على الحكام عبثهم في المال العام)

ومن هناك ندرك أنه من العبث في دين الله محاولة اتهام الناس بفعلهم ما شرع الله لهم من مناصحة أو إنكار لمنكر أو مطالبة بحق أو رفعا لمظلمة ونحوها بل أن هذا الاتهام تشريع في دين الله لم يأذن به الله تعالى ويجب على من صدر منه مثل ذلك أن يبادر إلى التوبة والإنابة مما بدر منه بتحريم وتجريم ما شرعه الله عز وجل.وان لا يغرهم من قال به طالما أن قوله لم يستند إلى دليل شرعي من القرآن وصحيح السنة. 



هناك 11 تعليقًا: